شعب الزعيم المختار -

[الدكتور أحمد باذيب]

شعب الزعيم المختار - جمال أنعم
03/08/2006


فيمَ تحدق أيها المستباح..؟!

ها أنت خرابة عارية في مرمى القصف، حطام ذاهلٌ على الحطام، خيبة صماء، فجيعة بكماء، كلامٌ فارغٌ كسيح.

فيمَ تحدق أيها الأسير المكشوف...؟!

في جثتك المنسحقة تحت ركام الهزائم، في انسحاقك على قارعة العرب الأكذوبة، في قاتلك القريب، أم قاتلك الغريب، في قضبان المحبس، في قبضة الحابس، في عزمك الحبيس؟.

ومم تفر: من بشاعة الجرم؟ أم من بشاعة الخذلان؟ من رعب الصورة أم من فجيعة العجز.

عيناك الفارغتان أيها العار المقعي على "حافة المذبحة" فيمَ تحدقان؟ في مصيرك المنتظر على مقاعد الفرجة، في جسد أمك المتفحم على مرأى قلبك المترمد، في رحمها المبقور لأنها أنجبت مسخاً حقيراً مثلك؟.

في مِزق الأخوة، أخوة الدين المذبوح والدم المسفوح والأرض المغدورة واللسان الممزع بين الموت والخيانة والصمت والإدانة.

فيمَ تحدق أيها الجبن المتكور على حافة جهنم؟، في أطفال "قانا" عصافير مرتعشة أوت في ليل القصف إلى عش تترصده صواريخ القتلة فإذا بهم أشلاء في وجه الصباح العربي الحالك.

وجعي عليك أيها القمر الصغير وأنت في مرمى الرعب أغنية دامعة تخاتل النعاس:

كان لي بيت وبستان صغير / كان لي أم وأب /وسرير من خشب/ وحكايا ضاحكات/ وهدايا ولُعب.

وجعي عليك وأنت تصحو مطفأ العينين منثوراً في كف الموت كحبات "الأرز"

فيمَ تحدق أيها الخطيئة المتحجرة؟ في وجهك المتهم المدان؟ في جبهتك المشروخة؟ في رأسك المهشم بأحذية الهوان؟ في قلبك المتصدع؟ في انهيارك المريع؟ في يأسك الحاد؟ في حيرتك الكابية؟ في لا استطاعتك الذابحة.؟.

الصمت عار، الندب وصمة، الشجب جريمة، الإدانة هباء، ماذا يفعل هذا المغلول؟ و"كم يكون القتيل" يا شوقي شفيق؟ كم يكون الذليل؟ كم يكون العاجز المهان؟ تاريخ من نزف أبدي وأيامٌ من موت مظفر، فيا بيروت امنحيني الكثير من الوقت لكي أعود، مضى وقت طويل على الممات،الموت يابيروت موطني المفدى مذ ولدت، رفيق الدرب، الآمر الناهي، ولي الأمر، الحاكم الحكيم السايس الزعيم، الواقع الدميم المقيم إلى الأبد .

الموت يابيروت في الزمن العربي الموات: أسلوب عيش،إستراتيجية بقاء، مقايضة مفروضة غير منصفة، موت ٌ بموت.

فناء الروح شرطُ بقاء الجسد، نفي العقل شرط قبول البلادة المهيمنة، لكي تعيش مجرد حيوان عليك أن تقتل فيك الإنسان، أن تموت عقلاً وروحاً كل يوم ألف مرة مقابل البقاء مقهوراً، مقموعاً، مأهولاً بالموت، آيلاً للسقوط، مجرد شيء قابل للشطب، للنهب، للضرب، للكسر، للرمي بعيداً عن نظر الحياة.

الموت لدينا دَرَبَة، مِرانٌ يوميٌ، كسب دائمٌ، خبرة تعلُّمُها أكثر يسراً على من صعبت عليهم الحياة واستسهلوا طرق الانكسار.

أليفاً يبدو الموت في أعين المأهولين به لا يُفزع ولا يستثير.

لنا ميتاتٌ بكيفيات متعددة تفضي بنا إلى هذا التصالح المميت.

أن تسقط صريعاً دون أن تصارع، أن تنهزم أمام تحديات البقاء، أن تسلم مصيرك للريح، أن تقبل بالهزيمة، أن تخضع لشروط القهر، أن تقاد كبهيمة، أن تعامل كمتاع، أن تداس كحشرة.

أن تقنع بموتك قريباً من الحياة، أن تزهد في حقك المغتصب، أن تمتنّ للحرمان، أن تمجد الجور، أن تخنق صوتك، أن تبلع لسانك، أن ترتد نقمتك عليك لعناً وسباً ومقتاً في زحام المدائح الممجِّدة للحقارات، أن تستعجل الفناء وأنت تدعو لقاهريك بطول البقاء، أن تحقر ذاتك إزاء القذارات، أن تقبل العيش بنفسية المعاقب، أن تدين نفسك، أن تخون مبادئك وقيمك، أن تتنازل عن كبريائك، أن تتواطأ على اللعب بمصيرك، أن تخذل روحك النبيلة وتضع من سموها، أن تقتل فيك الإنسان الحُرْ كي تبقي الحيوان العبد.

صورٌ من ميتاتنا المعتادة، وفي محيطٍ يستبطن الموت على هذا النحو لا صوت يعلو على صوت المقبرة.

واقع الخذلان يعكس نفسه، وحيث يسقط الإنسان في الموت دونما مبالاة تسقط الأوطان بيسر، تسقط الأنظمة، تسقط الزعامات، تسقط الشعوب، تسقط الكرامة.

كل ما هنالك يا بيروت أنك تعريننا بقسوة، تكشفين سوءاتنا المدفونة، تنسفين الجسور التي مددناها بيننا وبين الموت، تضربين ميتاتنا التحتية في الصميم، تطلقيننا في فضاء الفضيحة عرايا من الشرف والمروءة ونخوة الرجال.

ها نحن يا بيروت نتبادل الأسف كعواجيز عقهن الدهر.

نشجب الشجب، ندين الإدانة، نشتم أكثريتنا المنبطحة والزعماء المزعومين الذين ما زالوا يحصون إنجازاتهم متناسين قتلانا وخيباتنا الكبار.

فهل ندعو..يا رب أعنا كيما ننسى لا كيما نحارب، نحن المنسيين المحشورين في ملاجئ اليتم والفاقة حفاة عراة منفيين محاصرين بجيوش جرارة ندفع في سبيلها ثمن "الكسرة والدواء" لتظل بنادقها متجهة صوب القلب.

جاء اليهود على ظهر أسطورة ويقين بأنهم شعب الله المختار ونحن شعب الزعيم المختار طبقاً للخرافات الرسمية المتأخرة، يعملون من أجل وطن لليهود ونعمل من أجل وطن القائد الرمز.

قبل سنوات افتدي 300 أسير عربي بجثتين إسرائيليتين ونحن شعوب لا قيمة فيها لغير الحاكم الفرد، له الشعب فداء، والوطن غنيمة وإرث مستحق.

من الملوم؟ أنا..أنتم؟..هم؟..حزب الله؟.. حزب الشيطان؟..أولمرت؟..بوش؟... رايس؟..بلير؟..الشجاع الأقرع؟ الفتاوى الضالة؟ المقاتلة في صف إسرائيل..أعراب النكسة والكبسة؟..طلاب الثارات القذرة؟..المتشيعين لصهاينة السبت وصهاينة الجمعة -حسب صلاح الدين الدكاك؟ من نغص عليهم حزب الله نوم القيلولة والبهجة بيوم المُلك حزب الله الذي تقدم في معركة مهزومين رضوا بمكانتهم من الذل.

لحكامنا يا بيروت مخاوف مستعجلة، عداوات معدة، قوائم جاهزة بالحروب الداخلية الملحة ولهم كراسي عملوا أن لا تدور، ويخشون عليها الدائرة، أدوات تحكم لا مشاريع حكم، يهمهم امتدادهم ولو على حساب تآكل السيادة على مستوى الدولة والقانون والحقوق والحريات هؤلاء أعداء نزعات التحرر والمقاومة، أنظمة العصابات المنظمة، نخاسوا الاوطان والشعوب، سماسرة الخيانات، الوالغون في الاثم الذين حولوا جبهاتنا المفتوحة إلى مجرد ميادين صدقة ومشاريع إحسان لتغطية عجزهم وجبنهم وتخاذلهم عن فعل ما يليق وليتهم استطاعوا الحفاظ على أبواب البِر مشرعة باتجاه مَواطن الخذلان بل ليتهم ما توطئوا على تخريب بيوتهم بأيديهم ومعاول قوم آخرين وما حولوا أوطانهم إلى سجون ومصائد أحرار وساحات ملاحقة للغضب المشتعل والنقم المشبوبة.

لدينا أوطان استوطنها إسرائيل الفرد وجعل من أهلها أذلة، شعوب قبلت بالشتات والفتات والعيش على هامش الحياة تصارع من أجل اللقمة والبقاء على حد الألم، شعوب تخلت عن طموحاتها وآمالها استوطنها العجز وقبلت أن تغادر الحياة قبل أن تغادر، شعوب قبلت أن تكون طرائد لكلاب حراسة.

بيروت لغتي منهكة وفؤادي بكاء وعتبي كثير، لا شيء يغفر لي سوى القيامة، عجزي لا يستحق الصفح، حزين أنا..لكن ما الحزن؟ وكيف يكون؟ ومن أين يجيء؟ موجع أنا.. لكن ما الوجع؟.

بي ألمٌ غامض، ملتبس، قديم، جديد، ألمٌ يستدعي غيره، جبال من الألم بل عالم من الوجع، بركان حنق مكبوت، طوفان مقتٍ يكفي لإغراق أمة استمرأت العوم في دمها حد الإدمان، أمة لا تموت إلا من أجل حياة الجلادين.

_________________________

(*) عن صحيفة الصحوة الأسبوعية والعنوان الأصلي للمقال: (عجزٌ لا يستحق الغفران)