05-30-2003, 03:54 AM | #1 | |||||||
حال نشيط
|
الر عيـــل الاول ....
حمزة ابن عبد المطلب ( اسد الله ... وسيد الشهداء ) :
كانت مكة تغط في نومها، بعد يوم ملء بالسعي، وبالكد، وبالعبادة، وباللهو.. والقرشيون يتقلبون في مضاجعهم هاجعين.. غير واحد هناك يتجافى عن المضجع جنباه، يأوي إلى فراشة مبكرا، ويستريح ساعات قليلة، ثم ينهض في شوق عظيم، لأنه مع الله على موعد، فيعمد إلى مصلاه في حجرته، وظل يناجي ربه ويدعوه.. وكلما استيقظت زوجته على أزيز صدره الضارع وابتهالاته الحارة الملحة، وأخذتها الشفقة عليه، ودعته أن يرفق بنفسه، ويأخذ حظه من النوم - يجيبها ودموع عينيه تسابق كلماته: لقد انقضى عهد النوم يا خديجة..!!! لم يكن أمره قد أرق قريشا بعد، وإن كان قد بدأ يشغل انتباهها، فلقد كان حديث عهد بدعوته، وكان يقول كلمته سرا وهمسا كان الذين آمنوا به يومئذ قليلين جدا.. وكان هناك من غير المؤمنين به من يحمل له كل الحب والإجلال، ويطوي جوانحه على شوق عظيم إلى الإيمان به والسير في قافلته المباركة. لا يمتنعه سوى مواضعات العرف والبيئة، وضغوط التقاليد والوراثة، والتردد بين نداء الغروب، ونداء الشروق ومن هؤلاء كان حمزة بن عبد المطلب.. عم النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة . ***** كان حمزة يعرف عظمة ابن أخيه وكماله.. وكان على بينة من حقيقة أمره، وجوهر خصاله.. فهو لا يعرفه معرفة العم بابن أخيه فحسب.. بل يعرفه معرفه الأخ، والصديق.. ذلك أن الرسول وحمزة من جيل واحد، وسن متقاربة.. نشآ معا، ولعبا، وتآخيا معا، وسارا معا على الدرب من أوله خطوة خطوة.. ولئن كان شباب كل منهما قد مضى في طريق - فأخذ حمزة يزاحم أنداده في نيل طيبات الحياة، وإفساح مكان لنفسه بين زعماء مكة وسادات قريش.. بينما عكف محمد على أضواء روحه التي انطلقت تنير له طريق الله وعلى حديث قلبه الذي نأى من ضوضاء الحياة إلى التأمل العميق، وإلى التهيؤ لمصافحة الحق وتلقيه.. نقول: لئن كان شباب كل منهما قد اتخذ وجهة مغايرة، فإن حمزة لم تغب عن وعيه لحظة من نهار فضائل تربه وابن أخيه.. تلك الفضائل والمكارم التي كانت تحل صاحبها مكانا عليا في أفئدة الناس كافة، وترسم صورة واضحة لمستقبله العظيم في صبيحة ذلك اليوم، خرج حمزة كعادته وعند الكعبة وجد نفرا من أشراف قريش وسادتها فجلس معهم، يستمع لما يقولون.. كانوا يتحدثون عن محمد.. ولأول مره رآهم حمزة يستحوذ عليهم القلق من دعوة ابن أخيه.. وتظهر في أحاديثهم عنه نبرة الحقد، والغيظ، والمرارة لقد كانوا من قبل لا يبالون، ورآهم يتظاهرون بعدم المبالاة والاكتراث أما اليوم، فوجوههم تموج موجا بالقلق، والهم، والرغبة في الافتراس.. وضحك حمزة من أحاديثهم طويلا.. ورماهم بالمبالغة، وسوء التقدير.. وعقب أبو جهل مؤكدا لجلسائه أن حمزة أكثر الناس علما بخطر ما يدعو إليه محمد ولكنه يريد أن يهون من الأمر حتى تنام قريش، ثم تصبح يوما، وقد ساء صباحها، وظهر أمر ابن أخيه عليها.. ومضوا في حديثهم يزمجرون، ويتوعدون.. وحمزة يبتسم تارة، ويمتعض تارة أخرى، وحين انفض الجمع وذهب كل إلى سبيله، كان حمزة مثقل الرأس بأفكار جديدة، وخواطر جديدة، راح يستقبل بها أمر ابن أخيه، ويناقشه من نفسه من جديد . ***** ومضت الأيام، ينادي بعضها بعضا ومع كل يوم تزداد همهمة قريش حول دعوة الرسول.. ثم تتحول الهمهمة إلى تحرش، وحمزة يرقب الموقف من بعيد.. إن ثبات ابن أخيه ليبهره.. وإن تفانيه في سبيل إيمانه ودعوته لهم شيء جديد على قريش كلها، رغم ما عرفت به من تفان وصمود..!! ولو استطاع الشك يومئذ أن يخدع أحدا عن نفسه في صدق الرسول وعظمة سجاياه، فما كان هذا الشك بقادر على أن يجد إلى وعي حمزة منفذا أو سبيلا.. فحمزة خير من يعرف محمدا - من طفولته الباكرة.. إلى شبابه الطاهر.. إلى رجولته الأمينة الساقمة.. إنه يعرفه نفسه، بل أكثر مما يعرف نفسه ومنذ جاءا إلى الحياة معا.. وترعرعا معا.. وبلغا أشدهما معا.. وحياة محمد كلها نقية كأشعة الشمس..!! لا يذكر حمزة شبيهة واحدة ألمت بهذه الحياة.. لا يذكر أنه رآه يوما غاضبا، أو قانطا، أو طامعا، أو لاهيا، أو مهزوزا.. وحمزة لم يكن يتمتع بقوة الجسم فحسب، بل وبرجاحة العقل، وقوة الإرادة أيضا.. ومن ثم لم يكن من الطبيعي أن يتخلف عن متابعة إنسان يعرف فيه كل الصدق وكل الأمانة.. وهكذا طوى صدره إلى حين على أمر سيتكشف في يوم قريب . . . وجاء اليوم الموعود.. وخرج حمزة من داره، متوحشا قوسه، ميمما وجهه شطر الفلاة ليمارس هوايته المحببة، ورياضته الأثيرة - الصيد.. وكان صاحب مهارة فائقة فيه.. وقضى هناك بعض يومه.. ولما عاد من قنصه، ذهب كعادته إلى الكعبة ليطوف بها قبل أن يقفل راجعا إلى داره وقريبا من الكعبة، لقيته خادم لعبد الله بن جدعان.. ولم تكد تبصره حتى قالت له: يا أبا عمارة.. لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا، من أبي الحكم بن هشام.. وجده هناك جالسا، فآذاه، وسبه، وبلغ منه ما يكره.. ومضت تشرح له ما صنع أبو جهل برسول الله.. واستمع حمزة جيدا لقولها، ثم أطرق لحظة، ثم مد يمينه إلى قوسه فثبتها فوق كتفه.. ثم انطلق في خطى سريعة حازمة صوب الكعبة، راجيا أن يلتقي عندها بأبي جهل.. فإن هو لم يجده هناك، فسيتابع البحث عنه في كل مكان حتى يلاقيه.. ولكنه لا يكاد يبلغ الكعبة، حتى يبصر أبا جهل، ثم استل قوسه وهوى بها على رأس أبي جهل فشجه وأدماه، وقبل أن يفيق الجالسون من الدهشة، صاح حمزة في أبي جهل: أتشتم محمدا، وأنا على دينه أقول ما يقول..؟! ألا فرد ذلك علي إن استطعت.. وفي لحظة، نسي الجالسون جميعا الإهانة التي نزلت بزعيمهم أبي جهل والدم الذي نزف من رأسه، وشغلهم تلك الكلمة التي حاقت بهم كالصاعقة.. الكلمة التي أعلن بها حمزة أنه على دين محمد يرى ما يراه، فيقول ما يقوله.. أحمزة يسلم..؟؟ أعز فتيان قريش وأقواهم شكيمة..؟؟ إنها الطامة التي لن تملك قريش لها دفعا.. فإسلام حمزة سيغري كثيرين من الصفوة بالإسلام، وسيجد محمد حوله من القوة والبأس ما يعزز دعوته ويشد أزره، وتصحو قريش ذات يوم على هدير المعاول تحطم أصنامها وآلهتها..!! أجل.. أسلم حمزة، وأعلن على الملأ الأمر الذي كان يطوي عليه صدره، وترك الجمع الذاهل يجتر خيبة أمله، وأبا جهل يلعق دماءه النازفة من رأسه المشجوج.. ومد حمزة يمينه مرة أخرى إلى قوسه فثبتها فوق كتفه، واستقبل الطريق إلى داره في خطواته الثابتة، وبأسه الشديد . ***** كان حمزة يحمل عقلا نافذا، وضميرا مستقيما.. وحين عاد إلى بيته، ونضا عنه متاعب يومه، جلس يفكر، ويدير خواطره على هذا الذي حدث من قريب.. كيف أعلن إسلامه.. ومتى..؟؟ لقد أعلنه في لحظة من لحظات الحمية، والغضب، والانفعال.. لقد ساءه أن يساء ابن أخيه، ويظلم دون أن يجد له ناصرا، فغضب له، وأخذته الحمية لشرف بني هاشم، فشج رأس أبي جهل وصرخ في وجهه بإسلامه.. ولكن، هل هذا هو الطريق الأمثل لكي يغادر الانسان دين آبائه وقومه.. دين الدهور والعصور.. ثم يستقبل دينا جديدا لم يختبر بعد تعاليمه، ولا يعرف عن حقيقته إلا قليلا.. صحيح أنه لا يشك لحظة في صدق محمد ونزاهة قصده.. ولكن أيمكن أن يستقبل امرؤ دينا جديدا، بكل ما يفرضه من مسؤوليات وتبعات، في لحظة غضب، مثلما صنع حمزة الآن..؟؟ لقد كان يطوي صدره على احترام هذه الدعوة الجديدة التي يحمل ابن أخيه لواءها.. ولكن، إذا كان مقدورا له أن يكون أحد أتباع هذه الدعوة، المؤمنين بها، والذائدين عنها.. فما الوقت المناسب للدخول في هذا الدين..؟ لحظة غضب وحمية..؟ أم أوقات تفكير وروية..؟؟ وهكذا فرضت عليه استقامة ضميره، ونزاهة تفكيره أن يخضع المسألة كلها من جديد لتفكير صارم ودقيق.. وشرع يفكر.. وقضى أياما، لا يهدأ له فيها خاطر.. وليالي لا يرقأ له فيها جفن.. وحين ننشد الحقيقة بواسطة العقل، يفرض الشك نفسه كوسيلة إلى المعرفة.. وهكذا، لم يكد حمزة يستعمل عقله في بحث قضية الإسلام، ويوازن بين الدين القديم، والدين الجديد، حنى ثارت في نفسه شكوك أزجاها الحنين الفطري الموروث إلى دين آبائه.. والتهيب الفطري الموروث من كل جديد.. واستيقظت كل ذكرياته عن الكعبة، وآلهتها، وأصنامها.. وعن الأمجاد الدينية التي أفاءتها هذه الآلهة المنحوتة على قريش كلها وعلى مكة بأسرها.. وبدا الانسلاخ من هذا التاريخ كله.. وهذا الذين القديم العريق.. هوة تتعاظم مجتازها وعجب حمزة كيف يتسنى لإنسان أن يغادر دين آبائه بهذه السهولة وهذه السرعة.. وندم على ما فعل.. ولكنه واصل رحلة العقل.. ولما رأى أن العقل وحده لا يكفي لجأ إلى الغيب بكل إخلاصه وصدقه.. وعند الكعبة، كان يستقبل السماء ضارعا، مبتهلا، مستنجدا بكل ما في الكون من قدرة ونور، كي يهتدي إلى الحق وإلى الطريق المستقيم.. ولنضع إليه وهو يروي بقية النبأ فيقول: ثم أدركني الندم على فراق دين آبائي وقومي.. وبت من الشك في أمر عظيم، لا أكتحل بنوم.. ثم أتيت الكعبة، وتضرعت إلى الله أن يشرح صدري للحق، ويذهب عني الريب.. فاستجاب الله لي وملأ قلبي يقينا.. وغدوت إلى رسول الله صلى الله علية وسلم فأخبرته بما كان من أمري فدعا الله أن يثبت قلبي على دينه وهكذا أسلم حمزة إسلام اليقين.. أعز الله الإسلام بحمزة.. ووقف شامخا قويا يذود عن الرسول الله، وعن المستضعفين من أصحابه.. ورآه أبو جهل يقف في صفوف المسلمين، فأدرك أنها الحرب لا محالة، وراح يحرض قريشا على إنزال الأذى بالرسول وصحبه، ومضى يهيئ لحرب أهلية يشفي عن طريقها مغايظه وأحقاده.. ولم يستطع حمزة - طبعا - أن يمنع كل الأذى.. ولكن إسلامه مع ذلك كان وقاية ودرعا.. كما كان إغراء ناجحا لكثير من القبائل التي قادها إسلام حمزة أولا، ثم إسلام عمر بن الخطاب بعد ذلك إلى الإسلام فدخلت فيها أفواجا..!! ومنذ أسلم حمزة نذر كل عافيته، وبأسه، وحياته، لله ولدينه حتى خلع النبي عليه هذا اللقب العظيم: أسد الله، وأسد رسوله.. وأول سرية خرج فيها المسلمون للقاء عدو، كان أميرها حمزة.. وأول راية عقدها رسول الله صلى الله علية وسلم لأحد من المسلمين، كانت لحمزة.. ويوم التقى الجمعان في غزوة بدر كان أسد الله وأسد رسوله هناك يصنع الأعاجيب . ***** وعادت فلول قريش من بدر إلى مكة تتعثر في هزيمتها وخيبتها.. ورجع أبو سفيان مخلوع القلب، مطأطئ الرأس، وقد خلف على أرض المعركة جثث سادة قريش، من أمثال أبي جهل.. وعتبة بن ربيعة.. وشيبة بن ربيعة.. وأمية بن خلف.. وعقبة بن أبي معيط.. والأسود بن عبد الأسد المخزومي.. والوليد بن عتبة.. والنضر بن الحارث.. والعاص بن سعيد.. وطعمة بن عدي.. وعشرات مثلهم من رجال قريش وصناديدها وما كانت قريش لتتجرع هذه الهزيمة المنكرة في سلام.. فراحت تعد عدتها، وتحشد بأسها ويأسها، لتثأر لنفسها ولشرفها ولقتلاها.. وصممت قريش على الحرب.. وجاءت غزوة أحد حيث خرجت قريش على بكرة أبيها، ومعها حلفاؤها من قبائل العرب، بقيادة أبي سفيان مرة أخرى وكان زعماء قريش يهدفون بمعركتهم الجديدة هذه إلى رجلين اثنين: الرسول عليه الصلاة والسلام.. وحمزة رضي الله عنه وأرضاه.. أجل.. والذي كان يسمع أحاديثهم ومؤامراتهم قبل الخروج للحرب، ويرى كيف كان حمزة بعد الرسول، بيت القصيد وهدف المعركة.. ولقد اختاروا قبل الخروج، الرجل الذي ولكلوا إليه أمر حمزة، وهو عبد حبشي، كان ذا مهارة خارقة في قذف الحربة.. جعلوا كل دوره في المعركة أن يتصيد حمزة ويصوب إليه ضربة قاتلة من رمحه، وحذروه من أن ينشغل عن هذه الغاية بشيء آخر، مهما يكن مصير المعركة واتجاه القتال ووعدوه بثمن غال وعظيم - هو: حريته.. فقد كان الرجل واسمه وحشي عبدا لجبير بن مطعم.. وكان عم جبير قد لقي مصرعه يوم بدر فقال له جبير: اخرج مع الناس، وإن أنت قتلت حمزة فأنت عتيق..! ثم أحالوه إلى هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان لتزيده تحريضا، ودفعا إلى الهدف الذي يريدون.. وكانت هند قد فقدت في معركة بدر أباها، وعمها، وأخاها، وابنها.. وقيل لها إن حمزة هو الذي قتل بعض هؤلاء، وأجهز على البعض الآخر.. من أجل هذا كانت أكثر القريشيين والقريشيات تحريضا على الخروج للحرب، لا لشيء إلا لتظفر برأس حمزة مهما يكن الثمن الذي تتطلبه المغامرة..!! ولقد لبث أياما قبل الخروج للحرب، ولا عمل لها إلا إفراغ كل حقدها في صدر وحشي ورسم الدور الذي عليه أن يقوم به.. ولقد وعدته إن هو نجح في قتل حمزة بأثمن ما تملكه المرأة من متاع وزينة - فلقد أمسكت بأناملها الحاقدة قرطها اللؤلئي الثمين وقلائدها الذهبية التي تزدحم حول عنقها، ثم قالت وعناها تحدقان في وحشي: كل هذا لك، إن قتلت حمزة..!!! وسال لعاب وحشي.. وطارت خواطره تواقة مشتاقة إلى المعركة التي سيربح فيها حريته، فلا يصير بعد عبدا أو رقيقا، والتي سيخرج منها بكل هذا الحلي الذي يزين عنق زعيمة نساء قريش، وزوجة زعيمها، وابنة سيدها..!! كانت المؤامرة إذن.. وكانت الحرب كلها تريد حمزة رضي الله عنه بشكل واضح وحاسم . ***** وجاءت غزوة أحد.. والتقى الجيشان.. وتوسط حمزة أرض الموت والقتال، مرتديا لباس الحرب.. وعلى صدره ريشة النعام التي تعود أن يزين بها صدره في القتال.. وراح يصول ويجول، لا يريد رأسا، إلا قطعه بسيفه، ومضى يضرب في المشركين، وكأن المنايا طوع أمره، يقذف بها من يشاء فتصيبه في صميمه..!! وصال المسلمون جميعا حتى قاربوا النصر الحاسم.. وحتى أخذت فلول قريش تنسحب مذعورة هاربة.. ولولا أن ترك الرماة مكانهم فوق الجبل، ونزلوا إلى أرض المعركة ليجمعوا غنائم العدو المهزوم.. لولا تركهم مكانهم وفتحهم الثغرة الواسعة لفرسان قريش لكانت غزوة أحد مقبرة قريش كلها: رجالها.. ونسائها.. بل وخيلها.. وإبلها..!! لقد دهم فرسانها المسلمين من ورائهم على حين غفلة، وأعملوا فيهم سيوفهم الظامئة المجنونة.. وراح المسلمون يجمعون أنفسهم من جديد، ويحملون سلاحهم الذي كان بعضهم قد وضعه حين رأى جيش قريش ينسحب ويولي الأدبار.. ولكن المفاجأة كانت قاسية وعنيفة ورأى حمزة ما حدث فضاعف قوته ونشاطه وبلاءه.. وأخذ يضرب عن يمينه وشماله.. وبين يديه ومن خلفه.. ووحشي هناك يرقبه، ويتحين الفرصة الغادرة ليوجه نحوه ضربته.. ولندع وحشيا يصف لنا المشهد بكلماته: وكنت رجلا حبشيا، أقذف بالحربة قذف الحبشة، فقلما أخطئ بها شيئا.. فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق.. يهد الناس بسيفه هدا، ما يقف أمامه شيء.. فوالله إني لأتهيأ له - أريده، وأستتر منه بشجرة لأتقحمه أو ليدنو مني، إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى فلما رآه حمزة صاح به: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور ثم ضربه ضربة فما أخطأ رأسه.. عندئذ هززت حربتي، حتى إذا رضيت منها دفعتها فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه.. ونهض نحوي، فغلب على أمره ثم مات.. وأتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى المعسكر فقعدت فيه، إذ لم يكن لي فيه حاجة - فقد قتلته لأعتق.. ولا بأس في أن ندع وحشيا يكمل حديثه: فلما قدمت مكة أعتقت، ثم أقمت بها حتى دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فهربت إلى الطائف.. فلما خرج وفد الطائف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليسلم تعيت علي المذاهب وقلت: ألحق بالشام، أو اليمن، أو سواها.. فوالله إني لفي ذلك من همي إذ قال لي رجل: ويحك..!! إن رسول الله، والله لا يقتل أحدا من الناس يدخل دينه.. فخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلم يرني إلا قائما أمامه أشهد شهادة الحق فلما رآني قال: أوحشي أنت..؟ قلت: نعم يا رسول الله.. قال: فحدثني كيف قتلت حمزة، فحدثته.. فلما فرغت من حديثي قال: ويحك.. غيب عني وجهك.. فكنت أتنكب طريق رسول الله صلى الله علية وسلم حيث كان، لئلا يراني حتى قبضه الله إليه.. فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة خرجت معهم، وأخذت حربتي التي قتلت بها حمزة.. فلما التقى الناس رأيت مسيلمة الكذاب قائما، في يده السيف، فتهيأت له، وهززت حربتي، حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فيه.. فإن كنت قد قتلت بحربتي هذه خير الناس وهو حمزة.. فإني لأرجو أن يغفر الله لي إذ قتلت شر الناس مسيلمة . ***** هكذا سقط أسد الله وأسد رسوله، شهيدا مجيدا..!! وكما كانت حياته مدوية، كانت موتته مدوية كذلك.. فلم يكتف أعداؤه بمقتله.. وكيف يكتفون أو يقنعون، وهم الذين جندوا كل اموال قريش وكل رجالها في هذه المعركة التي لم يريدوا بها سوى الرسول وعمه حمزة.. لقد أمرت هند بن عتبة زوجة أبي سفيان.. أمرت وحشيا أن يأتيها بكبد حمزة.. واستجاب الحبشي لهذه الرغبة المسعورة.. وعندما عاد بها إلى هند كان يناولها الكبد بيمناه، ويتلقى منها قرطها وقلائدها بيسراه، مكافأة له على إنجاز مهمته.. ومضغت هند بنت عتبة الذي صرعه المسلمون ببدر، وزوجة أبي سفيان قائد جيش الشرك والوثنية.. مضغت كبد حمزة، راجية أن تشفي تلك الحماقة حقدها وغلها، ولكن الكبد استعصت على أنيابها، وأعجزتها أن تسيغها، فأخرجتها من فمها، ثم علت صخرة مرتفعة، وراحت تصرخ قائلة نحن جزيناكم بيوم بدر والحرب بعد الحرب ذات سعر ما كان عن عتبة لي من صبر ولا أخي، وعمه، وبكري شفيت نفسي وقضيت نذري أزاح وحشي غليل صدري وانتهت المعركة، وامتطى المشركون إبلهم، وساقوا خيلهم قافلين إلى مكة.. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه إلى أرض المعركة لينظر شهداءها.. وهناك في بطن الوادي، وإذ هو يتفحص وجوه أصحابه الذين باعوا الله أنفسهم، وقدموها قرابين مبرورة لربهم الكبير، وقف فجأة.. ونظر، فوجم.. وضغط على أسنانه.. وأسبل جفنيه.. فما كان يتصور قط أن يهبط الخلق العربي إلى هذه الوحشية البشعة، فيمثل بجثمان ميت على الصورة التي رأى فيها جثمان عمه الشهيد المجيد حمزة بن عبد المطلب أسد الله.. وسيد الشهداء.. وفتح الرسول عينيه التي تألق بريقهما كومض القدر.. وقال وعيناه على جثمان عمه: لن أصاب بمثلك أبدا.. وما وقفت موقفا قط أغيظ إلى من موقفي هذا.. ثم التفت إلى أصحابه وقال: لولا أن تحزن صفية - أخت حمزة - ويكون سنة من بعدي، لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير.. ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن، لأمتثلن بثلاثين رجلا منهم.. فصاح أصحاب الرسول: والله، لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر، لنمثلن بهم، مثله لم يمثلها أحد من العرب..!! ولكن الله الذي أكرم حمزة بالشهادة، يكرمه مرة أخرى بأن يجعل الرحمة حتى في العقوبة والقصاص واجبا وفرضا.. وهكذا لم يكد الرسول صلى الله علية وسلم يفرغ من إلقاء وعيده السالف حتى جاءه الوحي وهو في مكانه لم يبرحه بهذه الآيات الكريمة : (( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين.. وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين.. واصبر، وما صبرك إلا بالله، ولا تحزن عليهم، ولاتك في ضيق مما يمكرون.. إن الله مع الذين اتقوا، والذين هم محسنون )) . وكان نزول هذه الآيات، في هذا الموطن، خير تكريم لحمزة الذي وقع أجره على الله . . . وكان الرسول صلى الله علية وسلم يحبه أعظم الحب، فهو كما ذكرنا من قبل لم يكن عمه الحبيب فحسب.. بل كان أخاه من الرضاعة.. وتربه في الطفولة.. وصديق العمر كله.. وفي لحظات الوداع هذه، لم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم جيء بشهيد آخر، فصلى عليه الرسول.. ثم رفع وترك حمزة مكانه، وجيء بشهيد ثالث فوضع إلى جوار حمزة وصلى عليهما الرسول.. وهكذا جيء بالشهداء.. شهيد بعد شهيد.. والرسول صلى الله عليه وسلم يصلي على كل منهم وعلى حمزة معه حتى صلى على عمه يومئذ سبعين صلاة . . . وينصرف الرسول من المعركة إلى بيته، فيسمع في طريقه نساء بني عبد الأشهل يبكين شهداءهن، فيقول الرسول صلى الله علية وسلم من فرط حنانه وحبه: لكن حمزة لا بواكي له..!! ويسمعها سعد بن معاذ فيظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يطيب نفسا إذا بكت النساء عمه، فيسرع إلى نساء بني الأشهل ويأمرهن أن يبكين حمزة، فيفعلن.. ولا يكاد الرسول بكاءهن حتى يخرج إليهن، ويقول: ما إلى هذا قصدت، ارجعن يرحمكن الله، فلا بكاء بعد اليوم.. ولقد ذهب أصحاب الرسول يتبارون في رثاء حمزة وتمجيد مناقبه العظمى.. فقال حسان بن ثابت في قصيدة طويلة له : [poet font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="" bkimage="http://www.alshibami.net/saqifa//backgrounds/17.gif" border="groove,2,gray" type=0 line=200% align=center use=ex char="" num="0,black"] دع عنك دارا قد عفا رسمها=وابك على حمزة ذي النائل اللابس الخيل إذا أحجمت=كالليث في غابته، الباسل أبيض في الذروة من هاشم=لم يمر دون الحق بالباطل مال شهيدا بين أسيافكم=شلت يدا وحشي من قاتل [/poet] وقال عبد الله بن رواحة : [poet font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="" bkimage="http://www.alshibami.net/saqifa//backgrounds/17.gif" border="double,2,gray" type=0 line=200% align=center use=ex char="" num="0,black"] بكت عيني وحق لها بكاها=وما يغني البكاء ولا العويل على أسد الإله غداة قالوا=أحمزة ذاكم الرجل القتيل أصيب المسلمون به جميعا=هناك وقد أصيب به الرسول أبا يعلى، لك الأركان هدت=وأنت الماجد البر الوصول [/poet] وقالت صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول صلى الله علية وسلم وأخت حمزة : [poet font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="" bkimage="http://www.alshibami.net/saqifa//backgrounds/17.gif" border="groove,2,gray" type=0 line=200% align=center use=ex char="" num="0,black"] دعاه إله الحق ذو العرش دعوة=إلى جنة يحيا بها، مسرور فذلك ما كنا نرجي ونرتجي=لحمزة يوم الحشر خير مصير فوالله لا أنساك ما هبت الصبا=بكاء وحزنا، محضري ومسيري على أسد الله الذي كان مدرها=يذود عن الإسلام كل كفور أقول وقد أعلى النعي عشيرتي=جزى الله خيرا من أخ ونصير [/poet] على أن خير رثاء عطر ذكراه كانت كلمات الرسول له حين وقف على جثمانه ساعة رآه بين شهداء المعركة وقال: رحمة الله عليك، فإنك كنت - ما علمت - وصولا للرحم، فعولا للخيرات . ***** لقد كان مصاب النبي صلى الله علية وسلم في عمه العظيم حمزة فادحا.. وكان العزاء فيه مهمة صعبة.. بيد أن الأقدار كانت تدخر لرسول الله أجمل عزاء ففي طريقه من أحد إلى داره مر علية السلام بسيدة من بني دينار استشهد في المعركة أبوها، وزوجها، وأخوها.. وحين أبصرت المسلمين العائدين من الغزو، سارعت نحوهم تسألهم عن أبناء المعركة.. فنعو إليها الزوج.. والأب.. والأخ.. وإذا بها تسألهم في لهفة: وماذا فعل رسول الله..؟؟ قالوا: خيرا.. هو بحمد الله كما تحبين..!! قالت: أرونيه، حتى أنظر إليه..!! ولبثوا بجوارها حتى اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما رأته أقبلت نحوه تقول: كل مصيبة بعدك، أمرها يهون . . . أجل.. لقد كان هذا أجمل عزاء وأبقاه.. ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم قد ابتسم لهذا المشهد الفذ الفريد، فليس في دنيا البذل، والولاء، والفداء لهذا نظير.. سيدة.. ضعيفة، مسكينة، تفقد في ساعة واحدة أباها، وزوجها، وأخاها.. ثم يكون ردها على الناعي لحظة سماعها النبأ الذي يهد الجبال: وماذا فعل رسول الله..؟؟!! لقد كان مشهدا أجاد القدر رسمه وتوقيته ليجعل منه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عزاء أي عزاء.. في أسد الله، وسيد الشهداء ,,,, ***** |
|||||||
مواقع النشر (المفضلة) |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
نغمة الحب الاول والاخير | قيسس | سقيفة الجوال | 0 | 09-06-2011 10:06 PM |
فوز السد على النصر بنتيجة 1-0 والاتحاد والوحدة انتهى الشوط الاول | محمد نور | السقيفه الرياضيه | 21 | 04-13-2011 06:42 PM |
مجموعة الرئيس واقاربة ال 16 وهذا الكشف الاول لكبار ناهبي الاراضي في عدن | حد من الوادي | سقيفة الأقتصاد وقضايا المجتمع | 0 | 02-16-2011 02:43 PM |
بمناسبة شهر ربيع الاول نضع الفيلم الامريكي عن الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم | شيخ الحبشي | سقيفة إسلاميات | 1 | 02-05-2011 12:23 PM |
افضل 10 صفقات في النصف الاول من الدوري الاسباني | ابن سيؤن | السقيفه الرياضيه | 2 | 01-24-2011 09:27 PM |
|