ابوبكر سالم بلفقيه..وحديث شامل في الذكرى الرابعة لرحيل المحضار

[باشراحيل]

	في الذكرى الرابعة لرحيل المحضار

ابوبكر سالم بلفقيه ل " الأيام" :
المحضار كان يطغى عليه جمال الأرض أي سعاد الشحرأرضنا وتربتنا وبلدنا كلها
{1-2}

حاوره في جدة: رياض عوض باشراحيل

ابوبكر سالم بلفقيه (ابوأصيل) علم خفاق , ونجم يتلألأ في سماء الأغنية العربية.. صوت أصيل ظل وفيا لفنه يبحر فيه رغم الإعصار والرياح الشديدة التي واجهته فتصدى لها بكل عزيمة وحكمة وحلم .. وهو الفنان الذي أذكى هويته في فنه وعمّق فنه بهويته واصالته , إذا غنّـى الدان اطرب القلوب والعقول والوجدان, إنه مطرب نادر حافظ على كرامة الفن والفنان في زمن السطحية والابتذال ..موهبة خلاقة مؤهلة لمخاطبة جميع الأعمار. وسيبقى هذا الصوت المنيع حياً وشباباًً لن يسمح لرياح الشيخوخة و الشيب أن تنفذ إلى أوتاره رغم انه غنى " شيبي متعّـب شبابي " .
إن الظروف المختلفة والمراحل التي مر بها ابوبكر سالم في حياته الفنية تمثل علامات مضيئة ومحطات مهمة على درب الغناء الطويل , تلك المحطات تعد جسراً يربط بين حياة الفنان وبيئته وفنه .. لذلك ارتبطت أغنيات بلفقيه بمنابع بيئية مكانية متعددة تجلت في أغنياته {بانلتقي في سعاد , شوقي إلى الغنّـاء ,لا تعذبني وألا سرت وتركت المكلا , يا طائره طيري على بندر عدن , أحبة ربا صنعاء , ماسلي قلبي ولا راض إلا معك في الرياض وغيرها }.
التقى ابوبكر سالم في بداياته الفنية بالشاعر الكبير حسين المحضار الذي هزّت أشعاره الغنائية حينذاك حضرموت كلها فردد أغنياته وانفتحت لهما طاقة القدر واستطاعا معا أن يحفرا تيارا متفردا في مسيرة الأغنية في جزيرة العرب , وأصبحت كلمات المحضار وألحانه هي المادة الخام للأغنية وموسيقى بلفقيه وصوته هو الترجمة الموسيقية لها وأضحت الأغنية المحضارية بصوت بلفقيه أغنية شامخة لا يخبو بريقها ولاينطفي ألقها , إذ لايمكن لأي صوت آخر أن يصل إلى الناس بنفس الدرجة من الأصالة والتألق الذي يحمله صوت بلفقيه إلى القلوب , ليس لأنه كان يحس إحساساً عميقاً بمعاني المحضار فحسب بل لأنه كان يعبر عنها بكل ملكاته الفنية و إيحاءاته الموسيقية وعاطفته الممزوجة في صوته العذب الذي جاء من ذات المنبع الذي جاءت منه الكلمات ومن ذات النفس العاطر الذي جاءت منه الألحان ومن ذات الآفاق التي جاءت منها الأغنية بكاملها وكان مستحيلاً على غيره أن يفعل ذلك .
أوسمة رفيعة

لقد رصع الوطن اليمني ومعه الوطن العربي صدر فناننا الكبير بالأوسمة الرفيعة تقديراً لفنه ولمكانته المتميزة في ميدان الغناء العربي ففي حين منح الوطن لبلفقيه شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة حضرموت امتداداً لتكريم فخامة الرئيس له فقد منحته الجامعة العربية أيضاً وسام الرواد العرب كما كرمه ملك مملكة البحرين الشقيقة بأعلى وسام ملكي هو وسام الكفاءة من الدرجة الأولى لما قدمه من إسهامات طوال مسيرته الفنية في تطوير الأغنية العربية .
" الأيام " تنتهز هذه المناسبات العظيمة لتهنيْ فناننا الكبير ابوبكر سالم بلفقيه على النجاحات التي حققها والأوسمة الكبيرة التي أحرزها بجهده وثقافته وفنه الرفيع وتجري معه هذا الحوار الشامل الذي يأتي متزامناً مع الذكرى الرابعة لرحيل رفيق دربه الشاعر الكبير حسين ابوبكر المحضار فأهلاً بالبلفقيه:

** ذكرى رحيل رفيق المشوار الطويل الشاعر حسين المحضار تطل على الأبواب .. فماذا تثير لديك هذه المناسبة من الأشجان والذكريات ؟ وما تود أن تقوله فيها ؟
_ لوجدّ الزمان ودار .. ومد علينا بأشعار وأشعار .. وهلت علينا الكثير من النجوم والأقمار .. لكن ماحد كما المحضار .. هذه هي الحقيقة .. وذكرى المحضار في الواقع حاضرة فينا , كل ما مرت سنة من وفاته وذكراه أقول إن المحضار حي بدليل إن القلوب تحيا في كل سويعة وكل يوم وكل زمان بالشعر أي بشعر المحضار وفنه .
والمحضار دواء متواجد لكل الأنفاس , نفس العاشق ونفس المغترب ونفس الصوفي ونفس الأحبة , فهو يجمع الأحبة في مأدبة واحدة وهذه المأدبة مدراره معطاءة وهي دائمة إن شاء الله وخالدة إلى الأبد .
جنينة سعاد
** المحضار عبر في فنه عن افراح الإنسان واتراحه .. هل يمكن أن يجود الزمان بمثل موهبته في زمن قريب ؟

_ المحضار حي في قلوبنا وفي قلوب محبيه وقد حل في كل بقعة بل وكل زاوية من زوايا بلده , حل بها ووضع بصمته فيها وخلدها في شعره .. ونحن نتمنى طبعاً أن تظهر المواهب في هذا البلد الطيب ولكن هي الحياة هكذا فإن مثل المحضار نادر حضوره ويحتاج الوطن إلى فترة طويلة حتى تظهر شخصية مبدعة في حجمه ووزنه الإبداعي.
والمحضار أصبح الآن محسوباً على كل هم وكل فرحة لأنه فرّح الهم وهمّم الفرحة وأعطاها قيم أخرى .. وخاصة للمغترب حيث كان لتجربة الغربة عنده أثرها البليغ والعجيب .

** لقد رأيتك رأي العين خلال زيارتك الأخيرة للوطن وأنت تقف على بوابة رباط المصطفى بالشحر وتهتف بصوت عال " الله الله في سعاد " ماهي دلالة هذه العبارة والرسالة التي تود قولها خاصةً وان عدسات التصوير كانت تلتقط المشهد ؟

_ الرسالة واضحة وسعاد الزبينه وتاريخها العريق معروف وهي توأم لتريم من ناحية الثقل العلمي والنشأة الدينية التي فيها , وحسين المحضار لولا سعاد لما كان سعيد الحظ بأن يحظى بهذا الشعر وهذه المحبة وقد أعطت له الشي الكثير .. وحسين بالمقابل يحب (سعاد) حباً كثيراً وحبه مثالي ونادر لها . ودار المصطفى الآن ينشيء هذا النشيء الطيب بالعودة إلى التشريع والفقه والعلوم الشرعية عموماً وهذا أيضا يعود في الأخير للثقل العلمي للمدينة , والمحضار تلقى من علوم هذا الرباط ودرس فيه إبان نشأته وهو عاش في جنينه جميلة جنينة سعاد فتلقى فيها ما لذ وطاب من ألوان وأشكال الورود الجميلة فانعكست في إبداعه وفي شعره .
وين صندوق الكتب

** الفترة التي عشتها مع المحضار في الستينات وتنقلتم خلالها في رحلات فنية إلى أكثر من بلد ومنطقة ومنها بيروت .. هل لك أن تحدثنا عن محطات فنية توقفتم بها في تلك الرحلات ؟

_ كانت لنا بالفعل رحلات فنية أنتجت بوجوده معي العديد من أغانيه التي سجلتها ومنها " وين صندوق الكتب والطوابع " إضافة إلى ثلاث أغنيات معها في إحدى رحلاتنا , وتلك الأغنيات الأربع صاغهن على سحر جمال لبنان كمصدر الهام شعري وواقعي وما شاهده وما ذاقه من روعة وحسن في الإنسان وفي الشارع وفي الجبل وفي التفاح اللبناني وفي كل بقعة هناك , ولكنه كان يطغى عليه جمال الأرض أي سعاد الشحر أرضنا و تربتنا وبلدنا كلها .. وتجد هذا واضحاً في أنفاسه الشعرية حيث يرتبط بتربته وبأهله وعاداته في أمثاله وتعابيره وتشبيهاته الغنائية , فعندما يصف أهله تجده يقول { ووجوههم مسفره ماد خلها غلس } لن تجد مثل هذا الوصف عند غيره وعندما يصف بلده يقول { أيش لبنان وأيش العاصمة بيروت } , المحضار ليس مرقم عشق فحسب ولكنه يبحر في مخاض مجتمعه كله وعاداته يقول كلمته ويسكبها حكم ومواجهة ومغازلة من نفس الحياة وأحوالها التي عاشها ..
أنا كنت أظن أن لبنان ستؤثر عليه كثيرا , هي أثرت عليه نوع ما دون شك لأن كل إنسان يتأثر بجمال أي بلد ولكنها لم تؤثر عليه لدرجة أن تسلبه سحره وموهبته الشعرية .. واذكر بيت قاله المحضار- يرحمه الله – وكان عندنا (جورج ثابت) يكتب لنا وهو رئيس الفرقة فقال من اجل جورج ولبنان لأن هذا البلد تستحق الغزل ولبنان كلها جميله قال :
{ لبنان والحب وأنت .. ذا حلم حققته من أمتى .. ومن بهذا الحب يا جورج أفتى }
فكان الحبيب المحضار مبهوراً هناك إلا أن هذا الانبهار لم يقف سداً أمام وجدانه كما يحدث عند بعض الناس ليحجب مشاعر الحب الحقيقية لأهله بل كان يخالجه الشوق ويؤلمه الحنين والبعد عن الأهل والوطن وكلما التهبت في وجدانه نار الغربه والبعد حسب تعبيره { نار بعدك} .. سكبها في أبيات وقصائد كما في أغنيته " شلنا يابوجناحين ".

** أغنية " شلنا يابوجناحين " لها قصة حكاها المحضار مفادها انك أخذته في جولة سياحية بالسيارة في بيروت ليتمتع بخضرة وجمال البلد ثم يصفها في أغنية طلبتها منه لاستكمال عدد الأغنيات العشر المطلوب تسجيلها في تلك الرحلة..هل أغنية بوجناحين من أغنيات الرحلة التي تتحدث عنها ؟

_ لا هو كتب هذه الأغنية في زيارة سابقة لهذه التي أحدثك عنها لأن (شلنا يابوجناحين) من باكورة ما غنيت للمحضار مع أغنية (يا زارعين العنب) .. وقصة الأغنية التي حكاها صحيحة وهذا تأكيد لما كنت أقوله لك حول تأصل حب الأرض في وجدانه والتصاقه الروحي بالوطن .

الدان..وتجربة الغربة

** المعين اللحني للمحضار والتنوع والثراء الذي استودعه فنه علامة مميزة في إبداعه .. ترى ما هي المنابع أو المصبات التي تسقي هذا المعين وترفده ؟

_ تميزت حضرموت بهذا الثراء والدان الحضرمي الذي يحتاج إلى وقت طويل في تحليله لأنه يأتي من مشتقات كثيرة ففيه النفس الديني بارز لأن حضرموت كانت تهتم بعلوم التجويد والقراءات الكثيرة مثل قراءة عمرو وقراءة حفص إذ لم يكن آنذاك في المناطق المجاورة هذا الاهتمام الكبير بالمدارس الدينية وتجويد القرآن , ماعدا صنعاء وزبيد فقد كان فيهما مثل هذا الاهتمام . فهذا الفستان الجميل الذي في الدان صمم من رسوم ونقوش الطقوس الدينية المعاشة ثم يأتي البحر الجميل ويأتي العشق النقي الصافي في حضرموت .. هذه العوامل كلها خالطت الدان وخالطت الفنون الحضرمية اللحنية المميزة فنشأ هذا التنوع والثراء والتميز عند المحضار لأنه ابن البيئة .. والدان مميز إذا قارنته بأي ألحان أخرى جبليه من دوعن مثلا تجدها ألحان خفيفة وحركيه تفرضها تضاريس المنطقة , ولكن الدان المرتب الرزين دلالة على النفس والمد الطويل . أما الدانات الأخرى التي تمارس في فنوننا فهي عبارة عن تفعيلات ومشتقات .. وهذا الدان المرتب الممدود لا يغنى إلا في الوادي بتريم وسيئون وفي الساحل بالشحر والمكلا أما في المناطق الأخرى فهم يسمعون الدان أو قد يمارسون غنائه ولكنه قد لا يكون متأصلاً فيهم .. فعندنا المشقاصي والدحيفه والهبيش والشرح وغيرها كثير بحكم تضاريس حضرموت وطبيعتها الجغرافية , فولدت فنوننا معبرة عن بيئتنا بتراثها وغناها وأصالتها .

** عندما قدمت أغنيات المحضار حول تجربة الغربة نلاحظ بعض التصرف الموسيقي في اللحن وأحياناً في الكلمة .. هل هذا صحيح ؟

_ نعم هذا التصرف يبني ولا يهدم ولأن الإخراج الموسيقي مسئولية تقع على عاتقي ولابد لي من تطويع الأغنية للأذن العربية وليس للأذن المحلية لأنها محلياً معروفة , إذا أردنا للأغنية أن تخرج إلى خارج الحدود .. والمحضار –يرحمه الله- يعطيك الولادة للعمل الفني وهي أهم ما يمكن ثم يقول لك التربية عليك .. الأغنية لابد لها أن تتحضر مع الوقت والزمن لا إن تبقى كما هي عميقة في محليتها وموغلة في جذورها التي لا يستطيع أن يفهمها أو يتذوقها إلا أهلها. هذا بخصوص بعض الأغنيات التي نعمل لها عناصر تشويق للاستمتاع بها , ونزينها لنغري بها الآخر ولتتلاءم مع الذوق الشامل وتستمع لها كل أذن خارج الوطن أما البعض الآخر من الأغنيات وخاصة التراثية فنبقيها كما هي دون أي تحديث وننادي الأذن العربية أن تفهمها كما هي وتتلقاها كما ولدت , وهذه المزاوجة والمرونة مطلوبة والجمود منبوذ .

** هذا الحديث يجعلنا نتوقف قليلاً لمزيد من الاستيضاح حول موضوع تطويع الأغنية للأذن العربية ؟

_ مهمة جداً هذه المسألة لذا تجد من يقول لماذا عملتم أورغ في هذا المكان وأدخلتم جيتار هناك , نعم عملنا ذلك لأننا بحاجة إليه ونحن اتكالون دائماً نستعين بالآخر في الكثير من شؤوننا تجد المدرب في الرياضة برازيلي والسائق فلبيني ونادراً تجد توفر الأداء الوطني , هذه مغريات ونحن لازلنا في الفن بحاجة إلى التشويق والأغراء .



والى ان نلتقي مع الجزء الثاني من هذا الحوار استودعكم الله ،،،