مسئولية السياسة عن أخلاق الناس

[الدكتور أحمد باذيب]

مسئولية السياسة عن أخلاق الناس - فهمي هـويدي
03/10/2006 الأهرام




الذي لايلحظه كثيرون من أهل القرار أن ممارساتهم لاتصنع السياسة فحسب, وانما هي أيضا تسهم في تربية المجتمع, وتؤثر سلبا وإيجابا في اخلاق الناس, لأن المحكومين يظلون في نهاية المطاف مرآة للحاكمين.


(1)

بين يدي مقالة نشرتها صحيفة نيويورك تاميز لبول كروجمان, وهو أحد كتابها الشجعان, الذين دأبوا علي توجيه النقد اللاذع لإدارة الرئيس بوش, عنوان المقالة هو: تشيني ـ رامسفيلد: لماذا تدمرون أخلاقنا؟ ـ إذ اعتبر كروجمان أن نائب الرئيس ديك تشيني في مقدمة رجال الادارة الذين يفتقدون إلي الشجاعة والنزاهة الاخلاقية, فهو الذي ضلل الأمريكيين وكذب عليهم لكي يورط بلاده في حرب العراق. وحين ثبت أن النظام العراقي لايملك اسلحة دمار شامل. وأن لا اساس للإدعاء بأن للنظام علاقة بتنظيم القاعدة, فإنه لم يملك شجاعة الاعتراف بالخطأ, ولكنه القي باللوم علي اجهزة الاستخبارات, التي اجبرها هو نفسه علي تضخيم التهديد الذي كان يمثله الرئيس السابق صدام حسين.

تحدث الكاتب ايضا عن دونالد رامسفيلد وزير الدفاع, الذي اعتبره بدور ليس رجلا بمعني الكلمة فهو الذي اسكت الجنرالات الذين اشتكوا من أن القوات الامريكية ذهبت إلي العراق باعداد اقل كثيرا مما يجب, كما عمل علي تهميش خبراء وزارة الخارجية الذين طالبوا بوضع خطة لمواجهة فترة مابعد انتهاء الحرب, وحين تعثرت القوات الأمريكية في العراق وبدا أن ايران هي الفائز الأكبر من الحملة, فإن رامسفيلد تغاضي عن كل الأخطاء التي وقعت والنتائج التي تحققت, وأصر علي أن الامريكيين حققوا انتصار مذهلا.

ضرب كروجمان مثلا ايضا بكل من وزير الأمن الداخلي الامريكي مايكل تشرتوف. ووزير الصحة مايكل ليفيت. فالأول قال أنه فوجئ بالأعصار الذي ضرب نيواورليانز ثم تبين أنه كان كاذبا, لأن تلقي انذارات عديدة في وقت مبكر قبل وقوع الكارثة, لكنه تجاهلها. والثاني وضع خطة كارثية لتوزيع الدواء علي المرضي في المستشفيات, في حين اعتبر ان ذلك لايؤثر علي وزارته, وأنه لايمكن اجراء تغيير واسع النطاق دون التعرض لبعض المشكلات. والحقيقة التي اخفاها هي أنه تجاهل اراء الخبراء الذين انتقدوا الخطة. وحذروه منذ شهور من الكارثة التي يمكن ان تترتب علي تنفيذها.

الخلاصة التي خرج بها كروجمان من شقين, الأول أن الآدارة الحالية حافلة بالنماذج التي تفتقد إلي الشجاعة الأخلاقية التي هي من مقومات الرجولة الحقة. الشق الثاني يتمثل في أن شخصية رجال الادارة هي انعكاس لشخصية الرجل الذي يرأسها, حيث عجز بوش عن الاعتراف بالأخطاء أو تحمل المسئولية عن الفشل بصورة تكاد تكون مرضية. ـ وقد وصف كروجمان رجال الرئيس بأنهم يشاطرونه نفوره من مواجهة الحقائق المرة.

ولطالما بقي هؤلاء علي ولائهم. فأنه يظل يدافع عنممارستهم رغم سوئها, لأن قيامه بشيء غير ذلك يعني أنه أساء اختيار معاونيه. وهو ليس علي استعداد للاعتراف بذلك.

في ختام مقالته اعتبر كروجمان أن أخطر ما في الموضوع ان تلك الشخصيات التي تفتقد إلي الشهامة الحقة. والتي تحكم الولايات المتحدة ـ تقوم بتدميرنا وتدمير وضعنا الاخلاقي علي نحو لن يغفره التاريخ.


(2)

الكلم كثير حول تأثير النموذج الذي يقدمه كل نظام علي سمعته الاخلاقية في الساحة الدولية, وهذا التأثير لايتجاوز عادة المجال الادبي والسياسي, الا اذا أرادت الدول الكبري ان توظف سوء السمعة لخدمة اغراضها الخاصة( كما يحدث في اللعب بمسألة انتهاكات حقوق الانسان واستخدامها مبررا للتدخل في شئون بعض الدول).

وفي كل الأحوال فإن اثارة المسألة من هذه الزاوية حديث نسبيا, حيث برزت في عالم مابعد الحرب العالمية الثانية وانشاء عصبة الأمم. لكن تأثير اداء السلطة علي منظومة القيم السائدة في كل مجتمع لم يلق مايستحقه من اهتمام في الكتابات المعاصرة. رغم ان ذلك التأثير يمتد اثره السلبي أو الايجابي ليشمل حركة المجتمع ككل, ومن ثم يسهم في تقدمه أو تدهور أوضاعه.

من الملاحظات الجديرة بالتسجيل في هذا الصدد أن الاقدمين كانت لهم عنايتهم بهذا الجانب... وكانت لهم نظراتهم الثاقبة فيه. وقد وقعت علي شيء من ذلك في كتاب للمفكر اللبناني هادي العلوي صدر قبل ثلاثين عاما تحت عنوان في السياسية السلامية. فقد ذكر أن موضوع العلاقة بين سلوك السلطة وقيم المجتمع كان مثارا في فرنسا ابان القرن الثاني عشر. فقد ارتأي الفليسوف هلفيتيوس أن السلطة مسئولة عن مساويء الشعب كما انها مسئولة عن محاسنه, ومن ثم اعتبر ان التافعل بين المجتمع والسلطة ذو اتجاه واحد, فالشعب لايؤثر في طبيعة السلطة. وانما تؤثر السلطة( من خلال النموذج الذي تقدمه) في خصائص الشعب واخلاقه. فالسلطة التي تقوم علي الابتزاز, ويتمتع اقطابها بامتيازات استثنائية لابد أن تخلف جهازا مرتشيا... والسلطة التي تتعامل مع الشعب بطريقة فاشية. فإن جهازها لابد ان يكون فاشيا, سواء بتشكيلات ام بالنزعة التي تسيطر علي افراده. وباب الاستطراد في هذا النقطة يتسع لممارسات اخري كثيرة. فالسلطة التي تتلاعب بالقانون وتتحايل عليه, تهيئي مناخا مواتيا لتراجع سلطة القانون وانهياره, وتلك التي تكذب علي الناس وتزور الانتخابات, تضع الاساس لشيوع ظواهر الغش والتدليس والتلاعب في اقرارات الذمة المالية... وهكذا.


(3)

توفر لنا الثقافة الاسلامية زادا مهما في المسألة, باعتبار ان المرجعية الدينية أولت عناية متميز بالاخلاق الخاصة والعامة ومايترتب عليها من تحقيق الاستقامة المنشودة للمجتمع, باعتبار أن هدف الرسالة هو صلاح حال العباد في المعاش والمعاد, وأن السياسة هي كل ما من شأنه أن يصبح الناس اقرب إلي الصلاح وابعد عن الفساد. وان سلوك الحاكم من مقومات عدالته, التي اذا انجرحت جاز خلعه والخروج عليه, وقد عني الخطاب الاسلامي منذ وقت مبكر بالتركيز علي دور السلطة في اصلاح المجتمع, وعبر عن ذلك الاثر المنسوب الي عمر بن الخطاب الذي يقول فيه أن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن. الأمر أن دور النموذج في سياسة الخلق أقوي تأثيرا من دور التعاليم, وكثيرة هي المنصوص التي تقرر أن صنفين من النخبة اذا صلحا صلح الناس... هما الأمراء( الحكام) والعلماء, وأكثر منها المصنفات التي تحدثت عن مواعظ الملوك والخلفاء, وواجب النصح لهم امرا بالمعروف ونهيا عن المنكر.

من الأقوال المأثورة عن الأمام علي بن أبي طالب أن: الناس بأمرائهم اشبه منهم بآبائهم( في التمثيل والتلقي والتقليد). ومما كتبه امير المؤمنين عمر بن الخطاب في وصاياه: أن الرعية مؤدية إلي الامام, ما أدي الامام إلي الله, فإذا رتع الامام( اسرف وتنعم) رتعوا. وفي تاريخ الطبري أنه لما حمل أحد قادة الجيش إلي عمر بن الخطاب سيف كسري وجواهره, بعد هزيمته امام المسلمين, فإن أمير المؤمنين قال: ان قوما ادوا هذا لذوو أمانة, فعلق عليه علي بن ابي طالب قائلا له: أنك عففت فعفت الرعية.

عبر ابن الاثير في مؤلفه الكامل في التاريخ عن الفكرة التي نحن بصددها بقوله: كان الوليد بن عبدالملك( الخليفة الأموي) صاحب بناء, واتخاذ المصانع والضياع. فكان الناس يلتقون في زمانه, فيسأل بعضهم بعضا عن البناء والعمران. وكان سليمان( ابن عبدالملك صاحب طعام ونكاح, فكان الناس يسأل بعضهم بعضا عن النكاح والطعام. أما عمر بن عبدالعزيز فلأنه صاحب عبادة, كان الناس يسأل بعضهم بعضا عن الخير: ما وردك الليلة, وكم تحفظ من القرآن, وكم تصوم الشهر. وقد بالغ بعض الكتاب وذهبوا إلي أبعد في تصويرهم لتأثير الحكام علي السلوك العام في المجتمع, فمنهم من تحدث عن اصداء العدل والسماحة التي شاعت في عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز, فقال أن الضواري تخلت عن طبيعتها المتوحشة, وتصالحت مع الحيوانات الضعيفة خلال سنوات حكمه(!).


(4)

من الأمور التي ركز عليها بعض العلماء في هذا السياق, التأثير الذي يحدثه الظلم بوجه خاص علي اخلاق الناس. فذكر الماوردي في ادب الدنيا والدين أن الجور يفسد ضمائر الخلق. وأن لكل جزء من الجور قسطا من الفساد حتي يستكمل. وقد اشتهر في معالجة هذه الجزئية كتاب طبائع الاستبداد لعبدالرحمن الكواكبي. الذي اعتبر الاستبداد مفسدة عظيمة, لم يترك مجالات من الحياة إلا وشوهها بعدما انشب فيها اظافره. فتحدث عن تأثير الاستبداد علي الدين والعلم والمجد والمال والتربية والترقي والاخلاق. وفيما يخص العنوان الأخير ذكر أن الاستبداد يفتك بالأخلاق الحسنة فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها. و..أقل ما يؤثر لاستبداد في اخلاق الناس, انه يرغم حتي الاخيار منهم علي ألفة الرياء والنفاق, ولبئس السيئتان, وانه يعين الاشرار علي اجراء غي نفوسهم آمنين من كل تبعه ولو ادبية. فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتصاح, لأن أكثر أعمال الاشرار تبقي مستورة, يلقي عليها الاستبداد رداء خوف الناس من تبعه الشهادة علي ذي شر, وعقبي ذكر الفاجر بما فيه. ولهذا شاعت بين الاسراء قواعد كثيرة باطلة( تبرر الخرس وغض الطرف) كقولهم: إذا كان الكلام من فضه, فالسكوت من ذهب.

وفي حديثه عن الاستبداد والترقي ذكر الكواكبي: أنه يقلب السير من الترقي إلي الانحطاط, من التقدم إلي التأخر, من النماء إلي الفناء,.. وافعاله( يقصد الاستبداد) تبلغ بالأمة حطة العجماوات, فلا يهمها غير حفظ حياتها الحيوانية فقط... وقد يبلغ فعل الاستبداد بالأمة أن يحول ميلها الطبيعي من طلب الترقي إلي طلب التسفل, بحيث لو دفعت إلي الرفعة لأبت وتألمت, كما يتألم الأجهر من النور.

في الختام الفت الانتباه إلي نقاط ثلاث هي:


(5)

1 ـ اننا حين نتحدث عن ممارسات السلطة في أي بلد فإنما نعني ما توفره من بيئة سياسية واجتماعية تحدث استجابات مختلفة في الافكار ومنظومة القيم تبعا لمواقف السلطة وتحيزاتها سلبا أو ايجابا. الأمر الذي يعني أن استقامة السلطة تستصحب تلقائيا صعودا للقيم الايجابية, أما انحرافها فانه يفتح الباب واسعا لتعاظم دور القيم السلبية.


2 ـ أن الحذر واجب من التبسيط في تفسير التحولات الاجتماعية, التي يعرف أهل الاختصاص أنه يتعذر ارجاعها إلي عامل وحيد, لأن تحولات عدة تتداخل فيها, ولعلك لاحظت أنني كررت الاشارة إلي أن اداء السلطة يسهم في تشكيل منظومة القيم, الأمر الذي يعني أن السلطة لا تنشيء القيم وإنما تغذيها فقط من خلال سلوكها في هذا الاتجاه أو ذاك. وهو ما يعني أيضا أن ثمة عوامل أخري تالية في الترتيب تسهم في تشكيل منظومة القيم والسلوكيات, بعضها يتعلق بالتاريخ والبعض الآخر يتصل بالجغرافيا, وهناك بعض ثالث وثيق الصلة بالاعراف والتقاليد, ورابع متأثر بطبائع الخلق وأمزجتهم في كل اقليم.


3 ـ أنني في الجولة التي قمت بها استطرادا من شهادة الكاتب الأمريكي بول كروجمان, لم أرد أن أحول الحديث إلي سياحة ثقافية تتحري ابعاد العلاقة بين السياسة والقيم الاخلاقية السائدة, بقدر ما توسلت بهذه الخلفية لكي اضع بين يدي القاريء اللبيب بعض المفاتيح التي تمكنه من قراءة الواقع العربي من زاوية اكثر عمقا. ومن ثم تساعده علي فهم مواضع الخلل في خرائط الحاضر والمستقبل ـ اما الخلاصة فانها متروكة لفطنة القاريء وحسن ادراكه.