الحدث الجنوبي تحت رعاية مخيلة شمولية

[حد من الوادي]

الحدث الجنوبي تحت رعاية مخيلة شمولية

16/05/2009
ماجد المذحجي- نيوزيمن:

يستدعي الحدث الجنوبي الان "طاقة العنف" لدى السلطات، ويفصح ببساطة عن المخيلة الشمولية الفجة لديها. وهي مخيلة ذات محتوى واحد، محدودة وغير مبدعة، تقوم باستنفار الناس وخلق الاصطفافات على المستوى الاجتماعي، وتتسلط امنياً على الفضاء العام فتصادر هوامش الحرية التي فيه، وترفع الشعارات "الوطنية" و"الوحدوية" إلى مستوى القداسة، وتطابق بين ذاتها وهذه الشعارات، فتصبح السلطة ذاتها بذلك هي الوحدة والديمقراطية، قاصرة الوحدة على صورتها ومشروعها وما تفعله، والديمقراطية على الشكل الذي تراه فقط، فيصبح أي تصور أخر نقيضاً لها بالضرورة: انفصالياً كالصحف المصادرة قياساً بوحدوية الثورة و26 سبتمبر والميثاق والدستور، ومخرباً كالنشطاء الجنوبيين قياساً بـ"حراس الوحدة" الذي "تقطعوا" لصحيفة الأيام وصادروا نسخها وأموال موزعها في لحج! يُعزز كل ذلك ضمنياً الرأي الجنوبي القائل بعدم التفريق بين الوحدة والسلطة، حيث الحاصل من مطابقة الاثنين واستمرار اقترانهما بالنسبة للجنوبي هو استمرار كل أسباب "غضبه"، حرب 94 وملحقاتها: نهب الأراضي، والتمييز، والتسلط الأمني... الخ!

المخيلة الشمولية متشابهة في أي مكان، ولا تغادر دائرة العنف في الرد على الاعتراضات، وتغليب فكرة القوة والقسر في التعامل مع الشأن العام. استدعاء التاريخ يوفر "نظائر" كثيرة لما تقوم به المخيلة السلطوية في الجنوب هنا. عقب انقلاب الجنرال فرانكو في اسبانيا على "الجبهة الشعبية" عام 1936 واندلاع حرب أهلية استمرت 3 سنوات، بسبب مقاومة الانقلاب من الديمقراطيين والاشتراكيين الأسبان الذين كانوا يحكمون حينها، وسقط خلالها أكثر من مليون قتيل، شكل الجنرال الدموي ميلشيات شعبية من أنصاره أطلق عليها، ضمن أوصاف كثيرة، حراس الجمهورية. هؤلاء الحراس انتشروا في كل مكان ليطابقوا بين الجمهورية الاسبانية المنشودة ومقولات الجنرال، تلك المطابقة استدعت كل الأفعال الدموية التي ميزت عهده القاتم: القتل والاغتيال وإغلاق الصحف والمنابر المعارضة والاعتقال ونشر الأجواء البوليسية وترويع الناس

ادوار حراس الجمهورية الأسبان تتشابه كثيراً مع ادوار حراس الوحدة المنشودة وهيئاتها الشعبية التي تتشكل الان في اليمن. المخيلة الشمولية نفسها في الحالتين، تنتج ذات الوصف وذات الوظائف. إن "حراس الوحدة" مثل "حراس الجمهورية" قادمين من الجماهير، وهم ضد الأعداء بمبادرة طوعية، يمثلون الوطنية بمقابل "الخونة" و"الانفصاليين"، ولإثبات ولائهم عليهم أن يردعوا "المخربين" كل في منطقته. الآمر ببساطة هو مخيلة تحرض الناس على بعضهم وتؤدي إلى "الفتنة" الأهلية، فعلى "حراس الوحدة" من أبناء الضالع أن يقاتلوا "الانفصاليين" من أبناء الضالع أيضاً، وكذلك سيكون الآمر في ردفان وأبين ولحج وشبوه وحضرموت وأي مكان اخر في الجنوب. إنها مخيلة تعفي السلطة من الدم المباشر وتترك الناس يقتلون بعضهم لتبقى هي، بينما يتحملون الكلفة الباهظة لكل ذلك وحدهم.

تضيق هذه المخيلة بالحريات، بأي تسليط للضوء على مساوئها ومخاوفها، ترعبها الصورة التي لا تأتي من عدستها، والرأي الذي لا يصطف خلفها. صادرت الأيام والنداء والشارع والمصدر والأهالي والوطني والديار، لتغلق البلد بأكملها على ما تردده هي لوحدها، تصبح صدى نفسها وتكرر يقينها باستمرار لتتغلب على مخاوفها وإحساسها العالي بالخطر.

نحن الان عرضة لرعب مخيلة سلطة متوترة وعنيفة باستمرار، تلويحها بإغلاق هذه البلاد يتأكد كل يوم، وإفسادها للمواقف والناس جزء من تقويضها لأي مصداقية في اليمن. لذلك دفعت بنقابة الصحفيين لإصدار بيان "شمولي" ضد من ينال من الوحدة والثوابت الوطنية، لتستخدم ذات البيان لاحقاً غطاءاً لأوسع مصادره للصحف وحرية الرأي والتعبير حدثت في اليمن منذ حرب 94، والناتج من ذلك هو حرق سمعة نقابة كانت في فترة ما محل الدفاع الرئيسي عن الحريات. ينسحب الآمر كذلك على اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، الذي يصدر بيان يؤكد فيه على الثوابت الوطنية بشكل فضفاض مندداً بحماسة بأعداء الوحدة، بدون أدنى حساسية تجاه دلالة ذلك في ظل احتقان وطني حاد مثل الذي تعيشه البلد، متحولاً ببساطة إلى موظف صغير ورديء في الجوقة الدعائية للدولة في معركتها الجديدة. إن هذه الحملة الأخيرة على الصحافة والحريات العامة لم تكتفي بمصادرة الصحف والملاحقة القانونية للصحفيين وكتاب الرأي، بل امتدت لتقوم بضرب مصداقية وسمعة ومواقف الكثير من الجهات والأفراد في التزامهم الفعلي بالنزاهة وبقيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.

إن الوعد بيمن ديمقراطي موحد الذي أنتجته لحظة 22 مايو 1990 يقوض بدأب منذ حرب صيف 94، وما يحدث الان في كل مكان يستنزف إمكانية استعادة هذا الوعد وحتى القدرة على تمنيه! تمضي الأمور نحو المزيد من الخسارة، وانسداد أفق الحلول السياسية، وتزايد الفقر، والكراهية، وفرص العنف وأسبابه، ومؤشرات التقاتل الأهلي، في بلد يبدو أن مخيلة السلطة فيه تستسيغ مذاق الدم فقط ولا تعد الناس بسواه.

[email protected]